غياب المواهب الفنيه

كتب : محمد فتحي: غياب الفنون والاهتمام بها في المدارس مثل -بحسب كثير من المتخصصين- حالة موات وقتل للمواهب، وأقام كثيرهم ورش وسمنارات لمعالجة هذا الواقع البائس؛ لكن لا حياة لمن تنادي, فاليوم سأكتب عن عصارة تجربة امتدت إلى 7 سنين من العمل بالمدارس الحكومية والخاصة, وأحاول تحريك بركة التعليم الساكنة.
لا أميل إلى مقارنة بين الطارف والتليد، ولكن أي شخص تلقى تعليمه بالنظام القديم (4*3) .. ثلاث مراحل؛ كل مرحلة ذات أربع سنوات.. وأولها المدرسة الأولية.. يجتر ذكريات تلك الفترة، الاستقرار لسنوات لناظر المدرسة ومعلميها.. المعلمون مؤهلون تماماً لأداء رسالتهم .. وفيهم الكثيرون من ذوي المواهب الفنية والرياضية.. وذلك قطعاً ينعكس على التلاميذ وعلى مستواهم الدراسي؛ ورعاية مواهبهم وصقلها وتنميتها.. وتلك الرعاية يذكرها كثير من قمم السودان في شتى المجالات الفنية والثقافية والعلمية.. ومن منا لا يذكر حصة الموضوعات، والتي خصص لها مخزن منفصل تعمره وزارة التربية سنوياً بمواد الفنون الجميلة (ألوان – أوراق – صلصال – صمغ) والتربية الرياضية ( زي رياضي للتمارين – زي رياضي للمباريات – كرات – شباك – حبال الجمباز ومرتبته..) وكل عام تنظم الجهة المعنية منافسات ساخنة تحظى بمشاهدة عالية من المهتمين ومساحة الفصول والمكاتب، كما كانت تقول لنا أستاذتنا الجليلة هدية عبد اللطيف، وأتذكر أنها كانت ترثي حال جيلنا؛ وأن كل تلك المناشط كانت بمواصفات محددة ولا يتم التصديق بفتح مدرسة إلا وفق تلك المواصفات..

ثم تأتي بعد ذلك النفحة الجمالية المتمثلة في التشجير والأزهار وحديقة الخضر، وحديقة الفاكهة والملاعب والساحات والمسرح، أما الآن فتسمع صرخات داوية من الطلاب وأولياء الأمور أن كاهلهم قد أثقل بالجانب الأكاديمي؛ وليس هنالك ما يجذب للمدارس لكي يتفاعل الطالب مع العملية التعليمية.

البيئة المدرسية أصبحت طاردة، فالذي يحدث بالمدارس الحكومية والخاصة على السواء.. هو كارثة بكل المقاييس.. فالمدارس الحكومية قلَّت فيها الأنشطة وتقلصت مساحاتها بسبب الاستثمارات التي يذهب ريعها للمحليات.. والغريب في الأمر أن المحليات رفعت يدها عن دعم المدارس بميزانيات مخصصة للتسيير والمناشط ودعم الكهرباء بسعر تجاري ؟! عجباً ؟! وهنالك منافسات سنوية شكلية ميتة لا روح فيها، يشرف عليها مجلس جل أعضائه لا علاقة لهم بتلك المناشط.. وبسبب عدم وجود الميزانية تفتقر معظم المدارس لأبسط مقومات العملية التربوية من مدرسة بهية تسر الناظرين (البيئة المدرسية)، ومعلم مدرب مقتنع بدوره، ومقنع لتلاميذه وذويهم، وكل الجهات ذات الصلة. مع إدارة مؤهلة ومدربة تمسك بكل خيوط اللعبة في يدها دون تفريط أو إفراط ( دورة مديري ومديرات المدارس )، ودعنا نتساءل، متى عقدت آخر دورة تدريبية لمديري ومديرات المدارس (لعام كامل بشهادة دبلوم معتمد ومعترف به إلا في شكل جرعات لا تتعدى أسبوعاً أو أسبوعين ؟!! ثم تأتي الدورات التدريبية للموجهين والإداريين على مستوى إدارات التعليم للمواكبة واكتساب الجديد في التربية "علم متجدد" .. ثم الدورات التجديدية للمعلم في مجال تخصصه (إن وُجد) للوقوف على أحدث طرق توصيل المادة للتلميذ.. ثم تأتي دورات تدريب المعلمين على المناشط في مجالات (الرياضية – المسرح – الموسيقى – الفنون الجميلة – المهرجانات).

هل يصدق القارئ العزيز أنه في فترات سابقة حتى ثمانينات القرن الماضي كان معلمو التعليم العام؛ وخاصة المرحلتين الإبتدائية والمتوسطة يبتعثون إلى الجامعات لدراسة التربية الرياضية والمسرح والموسيقى والفنون الجميلة؛ لنيل درجة البكلاريوس على حساب الوزارة بتفرغ كامل ومرتب كامل (حتى ترقياتهم لم تكن تتأثر).. وهنالك مجال تنمية المجتمع التي كان يبتعث لها المعلمون للجامعات ومراكز التنمية الاجتماعية (شندي) .. فلننظر لمساحات المدارس والإقطاعيات الكبيرة (استثمار المحلية) وهو على حساب مساحة كان من المفترض أن يتمتع بها تلميذ المدرسة.. والمصيبة الكبرى ما نراه في المدارس الخاصة وهي عبارة عن بيوت أو عمارات تتكون من غرف لا تتجاوز مساحتها (4 في4) أو ( 4في5) على أحسن الفروض.. وهي معدة أصلاً للسكن.. فكيف لها أن تستوعب عدداً يربو على الثلاثين طفلاً أو طفلة، دون توفر أبسط المقومات من جلسة صحيحة وصحية بعيداً عن انتقال العدوى وصعوبة التنفس بسبب الضيق، وكيف للمعلم أن يتابع عمل تلاميذه؛ بالمرور عليهم أثناء الحصة.. وليس بالمدرسة مساحة واسعة بالمواصفات المطلوبة للألعاب والمناشط.. كل الاهتمام ينصب على مكتب المدير والمدير المالي والمقصف (والأسباب معلومة سلفاً)، حيث العقلية التجارية تتحكم في ذلك الأمر، ونحن كتربويين نرى أن تكون المدرسة ذات مواصفات معينة لمزاولة تلك الأنشطة، أن تكون مساحة باحة المدرسة والفصول والمكاتب والمخازن والمقصف ودورات المياه حسب المواصفات المطلوبة، تأهيل المدير والمعلم لأداء الدور التربوي المنوط بهم؛ وهو لا يقتصر على الجانب الأكاديمي، وتوفير ميزانية معتبرة ثابتة لكل عام دراسي لتسيير المناشط المصاحبة مع توفير ميزانية تسيير (أدوات مكتبية ووسائل إيضاح مع صيانة المدرسة وأهمية توفير الأجهزة المعنية إذاعة مدرسية، ميكرفون، مكتبة صوتية، مكتبة لكل صف، جهاز حاسوب مع طابعة، جهاز تسجيل، جهاز تلفزيون ).

وضرورة تأسيس المكاتب والفصول بشكل يجعل من العملية التربوية والتلقي عملية محببة وسهلة ومستساغة.

والتقيد بالمواصفات المطلوبة في المساحات داخل المدرسة، فكانت هنالك شعارات كانت تكتب في واجهة معاهد التدريب بالبنط العريض منها: نحن نتعلم ممن نحب.